إن الاختلاج هو الحالة التي يحدث فيها تفريغ فجائي و بشكل زائد و غير طبيعي للشحنات الكهربائية من بعض المناطق في الدماغ ، الأمر الذي يؤدي إلى التأثير على الفعالية الوظيفية العصبية الدماغية ، و يمكن أن يطرأ هذا التفريغ في أي منطقة من مناطق الدماغ كما سلف ، و عليه فإن تاثيراته العصبية و مظاهره الشكلية متفاوتة ، مؤدية إلى حدوث اضطرابات حركية ، أو حسية ، أو اضطراب في الوعي ، أو في الوظائف العصبية الإنباتية (اللاإرادية : الودية و نظيرة الودية) ، و قد يجتمع أكثر من واحد من الاضطرابات السابقة ، كما أنها يمكن أن تأخذ أشكالاً سريرية عدة . إن الاختلاجات عند حديثي الولادة (أي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من صفر إلى 30 يوماً) عادة ما تشير إلى خلل دماغي معين ، و إن تشخيص و معالجة هذه الاختلاجات يمكن أن يقي من تطور الحالة إلى مرض عصبي مترق مزمن و أذية دماغية ثابتة . و من الضروري التفريق بين الاختلاجات و الصرع بأنواعه المختلفة ، فالاختلاج حدث فردي ناجم في الأغلب عن اضطراب مؤقت معين (نقص سكر الدم مثلاً)، و بدون هذا الاضطراب الذي يكون واضحاً في العادة ؛ لا تتكرر هذه الاختلاجات ، أما الصرع .. فهو عبارة عن نوبات أو هجمات معاودة و متكررة ، و لا يبدو أنها تثار بحادثة معينة و لازمة تهيء لحدوثها.
تشاهد الاختلاجات بنسبة تتراوح بين 4¸0 و 5¸1 % من بين حديثي الولادة ، و ترتفع هذه النسبة كثيراً في الفئات عالية الخطورة ؛ فنسبة 20% من الأطفال حديثي الولادة الذين تقل أوزانهم عن 2500 غرام يعانون من الاختلاجات ، كما أن 50% من الأطفال الذين تعرضوا لنقص أكسجة عند الولادة يصابون بالاختلاجات مع إمكانية تطور اعتلال الدماغ الإقفاري بنقص الأكسجة HIE و تبلغ نسبة الوفيات في حديثي الولادة المصابين بالاختلاجات من 15-40% و تعتمد بشكل كبير على السبب المستبطن و الآلية التي ظهرت الاختلاجات بموجبها .
أشكال الاختلاجات عند حديثي الولادة :
تبدي الاختلاجات عند حديثي الولادة أشكالاً مختلفة و سلوكاً مغايراً لما هي عليه عند الأطفال الأكبر سناً و البالغين ، و ذلك بسبب عدم اكتمال نضج الدماغ لديهم ، و هناك عدة أشكال سريرية مشاهدة : الاختلاجات الرمعية Clonic البؤرية و المتعددة البؤر، الاختلاجات المقوية أو التوترية Tonic البؤرية و المعممة ، الاختلاجات المقوية العضلية Myoclonic البؤرية و المتعددة البؤر و كذلك المعممة ، و الشكل المخفف Subtle و الذي يترافق بمظاهر حركية و إنباتية بسيطة نوعاً ما. تختلف هذه الاختلاجات فيما بينها بنمط الاختلاج الذي يصيب الطفل (الاهتزاز العنيف ، الانبساط الشديد ، حركات متكررة بسيطة ..) ، و توضعه (شاملاً للجسم كله ، أو في أحد الأطراف ، أو في مجموعة من الأطراف في نفس الجانب أو في كلا الجانبين) ، و كذلك في كونه مترافقاً مع تغيرات في تخطيط الدماغ الكهربائي أو لا ، فقد لوحظ أن بعض الاختلاجات تترافق منذ بدايتها مع تغيرات ملحوظة في فعالية الدماغ الكهربائية على المخطط مثل زيادة الفولتاج ، في حين أن بعضها الآخر يبدأ و ينتهي دون أن تطرأ على المخطط أي تغيرات تذكر ، و في المقابل هناك حالات تظهر فيها تغيرات على التخطيط في حين لا يبدي الطفل أية أعراض أبداً ، و قد دعت هذه الملاحظات إلى اعتبار أن الاختلاجات عند حديثي الولادة لا تثار فقط بفرط الفعالية الكهربائية الدماغية فقط ، بل إنها يمكن أن تحدث كاستجابة لبعض التأثيرات الأخرى ، و التي تكون في معظمها استقلابية ، مثل انخفاض سكر الدم ، و انخفاض كالسيوم الدم ، و انخفاض مغنيزيوم الدم و نقص الأكسجة .. و غيرها ، و قد افترض في بعض أشكال هذه الاختلاجات و هو المسمى بالاختلاج المخفف ، و هو أكثر الأشكال مشاهدة عند الأطفال حديثي الولادة ، أن الاضطرابات الاستقلابية الشائعة الحدوث عند هذه الفئة من الأعمار تمارس تاثيراً مثبطاً للدماغ الأمامي ، فالدماغ الأمامي أو المقدم Forebrain يفرز في الحالة الطبيعية مواد خاصة تعمل على تثبيط فعالية جذع الدماغ Brain Stem ، و عندما يتم تثبيط الدماغ الأمامي (كما يحدث في الحالات المذكورة سابقاً) يغيب الدور المثبط له على جذع الدماغ .. و بالتالي تظهر الفعالية الزائدة للأخير على شكل اختلاجات من النوع المخفف أو من النوع المقوي ، و هما النوعان اللذان لا يترافقان بتغيرات في مخطط كهربائية الدماغ . تتظاهر الصورة السريرية في الاختلاج المخفف ببعض الفعاليات الحركية العينية Ocular Movements or changes مثل التحديق المستمر ، انحراف المآقي أفقياً ، رجفان الكرتين العينيتين ، الغمز ...) ، أو بحركات فموية شدقية لسانية Oral-Buccal-Lingual Movements مثل المضغ و الإلعاب و المص و قذف اللسان نحو الخارج ، أو حركات في الأطراف تشبه الحركات الدورية التي يقوم بها السباحون أثناء السباحة Cycling Swimming Limb Movements ، أو على شكل اضطرابات ذاتية إنباتية Autonomic Changes ، مثل تغيرات الضغط الدموي الشرياني و عدم انتظامه صعوداً و هبوطاً ، تسرع القلب ، توسع الحدقات . و كما أسلفت ، فإن هذا النوع من الاختلاجات لا يترافق مع تغيرات في مخطط الدماغ الكهربائي ، فيما عدا الاختلاج المترافق مع انحراف العينين أفقياً ، فهذا يترافق مع تغيرات خاصة على التخطيط .
أما أكثر الاختلاجات سهولة في التشخيص فهو الاختلاج الرمعي ، و الذي يتظاهر على شكل حركات منتظمة و متواترة لجزء أو أكثر من الجسم ، حيث يمكن أن تظهر هذه الحركات في يد واحدة ، أو في طرف واحد ، أو أن تكون شاملة لكلا الطرفين ، و بخلاف الاختلاجات الرمعية عند الأطفال الأكبر سناً .. تميل الاختلاجات الرمعية عند حديثي الولادة للتنقل بين أكثر من طرف .. في ذات النوبة أو في النوبات المتتالية .. كأن تصيب اليد اليمنى .. و من ثم الساق اليسرى .. و هكذا ، كما أن الاختلاجات المقوية الرمعية (و هي النوع المصادف عن الأفراد البالغين و الشائع لدى المصابين منهم) لا تشاهد عند حديثي الولادة ، لأن الجهاز العصبي الغير مكتمل النمو عند حديثي الولادة لا يسمح له بإنتاج كل هذه الفعالية الحركية الاختلاجية و السيطرة عليها .
أما الاختلاجات العضلية الرمعية فهي عبارة عن اختلاجات معممة تصيب كامل الجسم .. أو أنها تصيب جزءاً واحداً منه ، و عادة ما تشير إلى أذية دماغية كبيرة مثل نقص الأكسجة الدماغي أو التشوهات المخية .
و أخيراً .. فإن الاختلاجات المقوية غالباً ما تكون معممة و نادراً ما تكون بؤرية ، و تظهر على شكل فرط انسباط شديد في كل أطراف الجسم ، و كسابقه فإنه عادة ما يكون علامة على ضرر دماغي واضح مثل نقص الأكسجة أو النزف داخل الدماغي .
يمكن للاختلاجات و لا سيما المطوّلة منها أن تتسبب في استهلاك مصادر الطاقة المخصصة لأنشطة الدماغ ، و بالتالي أن تؤدي إلى تخفيف أو نضوب هذه المصادر ، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى الإقفار الدماغي (نقص التروية الدموية أو انخفاض الوارد من الأكسجين عن جزء معين من الدماغ أو عن الدماغ إجمالاً) و الموت الخلوي للخلايا العصبية فيه و ذلك بنفس الآلية ، و إن الاختلاجات المطولة يمكن لها أيضاً أن تؤثر على مستوى الأكسجة بشكل عام في البدن، و التوازن الحمضي القلوي ، و كذلك على الوظائف القلبية ، و إن هذه التأثيرات الجهازية يمكن أن تزيد بدورها من نقص الأكسجة و الإقفار الدماغي أيضاً ، و قد يحدث الموت الخلوي في الخلايا العصبية الدماغية ، و هو عبارة عن تلف غير قابل للإصلاح على الأغلب ، و ذلك بسبب تحرر بعض المواد و المركبات السامة و المؤذية من النسيج العصبي أثناء الاختلاج ، أو بعد الاختلاج نتيجة لتأذيه بالعوامل السابقة الذكر ، حيث تمارس هذه المركبات مفعولاً خاصاً على مستقبلات معينة موجودة على سطح الخلايا العصبية الدماغية هي مستقبلات الغلوتامات ، و بالتالي تتم استثارة الخلايا العصبية ، و يتدفق الكالسيوم إلى داخل الخلايا بتراكيز كبيرة و قاتلة ، فينتج عن ذلك موت الخلايا العصبية المتأثرة ، و يبدو أن هذه السيرورة المفترضة للموت الخلوي تعتمد بشكل ما على عمر الطفل المصاب بالاختلاج و طول فترة هذه الاختلاجات ، إذ يتأثر الأطفال الأصغر سناً ذوي الأدمغة الأقل تماماً و نضجاً بشكل أكبر من الأطفال الأكبر و الذين يمكن لأدمغتهم أن تبدي مقاومة ما أمام هذه الحالة .
الأسباب
يمكن نظرياً لأي آليات إمراضية عند حديثي الولادة أن تتسبب بحالة فرط الاستثارة في الخلايا العصبية الدماغية و بالتالي حدوث الاختلاجات ، و قد دُرِسَتْ هذه الآليات على مر الزمن ، فمنذ عقود مضت كان السبب الأهم و الأكثر شيوعاً للاختلاجات هو حالة نقص الكلسمية المتأخرة ، أو ما يسمى بتكزز الوليد (انخفاض كالسيوم الدم Late Hypocalcaemia) و الناتج عن ارتفاع مستوى الفوسفات في الوصفات الغذائية للأطفال حديثي الولادة بعمر 4 أو 5 أيام في الأشكال المختلفة من الوصفات الغذائية التي كانت تعد لهم في ذلك الوقت ، أما في الوقت الراهن .. فمن النادر أن يكون نقص الكالسيوم المتأخر في الدم الناتج عن أخطاء التغذية سبباً في إحداث الاختلاجات على الرغم من كونه لا زال يشاهد بدرجة معقولة ، بالمقابل ، و بسبب ارتفاع معدلات الحياة عند الأطفال الخدج (و هم الأطفال الذين يولدون قبل الأسبوع 37 الحملي) صار هؤلاء الأطفال من الفئات المعرضة بشكل كبير لاختلاجات حديثي الولادة ، أما أكثر الأسباب المؤدية إلى الاختلاج عند حديثي الولادة في أيامنا هذه فهو الاختناق Asphyxia و ما يصاحبه أو يعقبه من الإقفار الدماغي و نقص الأكسجة ، حيث تشكل حالة HIE 50% على الأقل من بين حالات الاختناق و تشاهد عادة خلال 12-24 ساعة من حادثة اختناق عند الولادة ، و هي معندة غالباً على الجرعات الاعتيادية من الأدوية المضادة للاختلاج ، كما و يمكن أن تنشأ نوبات الصرع بعد الاختناق من اضطرابات الاستقلاب التي يمكن أن ترافق حالة اختناق الوليد مثل نقص سكر الدم (المتأخر أو المبكر) و نقص الكالسيوم.
و في حين أن الـ HIE تشكل السبب الأكثر شيوعاً للاختلاجات عند المواليد التامي النضج ، فإن 15% من هذه الاختلاجات تحدث بسبب النزف داخل الجمجمة و خاصة النزف داخل البطين الدماغي IVH و هو سبب يشاهد شائعاً عند الخدج ، إضافة إلى النزف تحت العنكبوتي SAH .
و يصادف كمسبب للاختلاجات عند الأطفال حديثي الولادة كذلك .. كل من الانتانات (و لا سيما بعد اليوم الخامس من الحياة) ، و التشوهات الدماغية (و عادة ما تتظاهر هذه الاختلاجات في غرفة الولادة أو بعد الولادة بعدة ساعات) ، و أمراض الاستقلاب (و في هذه الحالة يمكن أن تكون هناك قصة إجهاضات متكررة ، أو وفيات لأطفال سابقين) ، و أخيراً .. السموم ، حيث تشكل الأسباب الأربعة السابقة ما نسبته حوالي 5 إلى 10 %
إن تقصي أسباب الاختلاجات عند حديثي الولادة له ما يبرره ، باعتبار أن الحالات التي يكون فيها الاختلاج ذاتياً أو مجهول السبب هي حالات نادرة ، كما أننا يمكن أن نتنبأ بإنذار هذه الحالات و تطورها المستقبلي من خلال معرفة السبب الكامن وراءها ، و إن العديد من هذه الأسباب قابل للمعالجة ، و يستجيب بشكل جيد لإزالة المسبب مثل نقص الكالسيوم و نقص المغنيزيوم و نقص السكر ، و بالتالي فإننا يمكن أن نقي الطفل من اختلاطات الاختلاج الخطيرة و الدائمة بمجرد المعالجة ، و على العكس من ذلك ، لا يزال الطب يقف عاجزاً أمام معالجة الاختلاجات التي تحدث بسبب الاختناق ، و هي النسبة العظمى منها ، حيث يبدو أن الضرر الدماغي في هذه الحالة دائم و غير قابل للمعالجة لو قدر له الحدوث ، و لا نتمكن سوى من محاولة تخفيف معاناة المريض بإجراء العلاج الفيزيائي الداعم ، و يبقى باب أمل مفتوح قائماً على الأبحاث الجديدة التي أثبتت أن هناك شواهد قوية تشير إلى إمكانية أن تكون الخلايا في النسيج العصبي قابلة للتجدد .
الإنذار
أما من حيث الإنذار .. فإنه يعتمد على عدد من العوامل .. منها عمر الوليد ، شدة الاختلاج ، و مدته ، و تواتره ، إضافة إلى أن النتيجة النهائية تعتمد إلى حد ما أيضاً على المجتمع قيد الدراسة ، إلا أن أهم هذه العوامل هو الآلية الإمراضية و السبب الذي أدى إلى حدوث الاختلاج .. و بحسب الدراسات التي راقبت حالات الأطفال المصابين باختلاجات حديثي الولادة ، فقد أفادت أن النتيجة النهائية لهذه الحالة تعتمد على العامل المسبب الأساسي و المستبطن الذي أدى للاختلاج أكثر من كونها تعتمد على شدة النوبة و تواترها و مدتها ، و بحسب هذه الدراسات أيضاً.. فإن العديد من الاختلاجات تنتهي بمجرد علاج الاعتلال الدماغي المرافق .. و ذلك إن كان قابلاً للمعالجة ، و سجلت أسوأ النتائج و الإنذارات في حالات التشوهات الدماغية الشديدة و النزوف الدماغية الداخل بطينية الشديدة كذلك ، في حين احتفظ كل من حالات الاعتلال الدماغي الإقفاري بنقص الأكسجة (المرافق لحالات الاختناق) ، و الانتانات ، و نقص السكر المبكر بنتيجة مقبولة أو لنقل متوسطة نوعاً ما ، حيث 50% من هذه الحالات يمكن أن تبقي للطفل مهارات و وظائف طبيعية نوعاً ما ، و هنا تتدخل العوامل الأخرى في تفصيل مدى جودة الإنذار بين هذه الحالات مثل شدة النوبة و تواترها و مدتها ... إلخ ، و معظم الأطفال الذين أصيبوا بالاختلاجات الناجمة عن النزف تحت العنكبوتي ، أو انخفاض سكر الدم المتأخر ، أو الاختلاجات الطفلية السليمة يبدون إنذاراً طبيعياً و مناسباً .
تعتمد درجة خطورة تطور هذه الاختلاجات نحو الصرع على عدد من العوامل أيضاً ، كالآلية المسببة للاختلاج ، و عدد الأيام التي يصاب فيها الطفل بالاختلاج خلال عام و نموذج التخطيط الدماغي المرافق لحالة الاختلاج . إن 40% من حديثي الولادة الذين تتكرر لديهم الاختلاجات في 3 أيام هم عرضة للإصابة بالصرع ، و 50% من أولئك المصابين بالأشكال التخطيطية من الاختلاج ، و لا سيما الغير مترافقة مع أعراض سريرية قد يصابون مستقبلاً بالصرع . و تبقى الإصابة الدماغية المستبطنة هي العامل الأساسي و الأهم في تحديد الإنذار و مدى سلامته أو مدى وخامة العواقب
د. أحمد شراب
اختصاصي طب أطفال
اختصاصي طب أطفال
0 التعليقات:
إرسال تعليق